
في الآونة الأخيرة، كنت من المتابعين للعديد من الأخبار أو التقارير التي تتحدث وتتعرض لمفهوم «مزبلة التاريخ»، فكم أحدثت هذه الكلمة من تراكم غير مسبوق في النفايات!
وبحسب مثل هذه التقارير، فإن القائمين على مزبلة التاريخ دائما ما يعبرون عن حالة من الارتياح والسعادة والرضا تغمرهم مع الأعداد المتزايدة والمهولة التي دخلت في الآونة الأخيرة، لأنهم لن يغلقوا «المزبلة» أو يحرقوها مع استمرار التدفق بهذه الوتيرة السريعة.
ولعل ما استوقفني مقال جميل للأستاذة سعدية مفرح حيال هذا الموضوع وسأقتبس منه، فقد أجادت بتقديم صورة مختصرة حول هذا المصطلح اللغوي الشائع الذي من خلاله يستطيع أي شخص «غاضب» تحديد وتقرير مصير مناهضيه بمجرد إرسالهم إليها، ليرتاح بعدها ولو للحظات مع نفسه، فهو جزء من تنمية الشعور بالاقتصاص من الظلام والأعداء، وملجأ يأوى إليه الضعيف والمكلوم موقنا أنه عقاب عادل لهم.
ظهر هذا المصطلح، في نهايات القرن التاسع عشر ببعض الخطب، لكنه لم ينتشر، وبكل لغات العالم تقريبا، إلا بعد أن استخدمه «ليون تروتسكي» الذي قرر إرسال خصومه المنشقين عن المؤتمر السوفييتي الثاني عام 1917 إلى مصيرهم المحتوم، حيث صرخ فيهم صرخة غضب هزت أركان القاعة تحت أرجل الحضور لحظتها: «إنكم أناس بائسون منعزلون! أنتم مفلسون. انتهى دوركم. اذهبوا إلى حيث تنتمون من الآن فصاعدا. أنتم في مزبلة التاريخ». ومنذ تلك الحادثة، فتحت المزبلة أبوابها على مصراعيها، وأصبح ذلك التعبير عاملا مشتركا في معظم الخطب والكلمات التي يلقيها الزعماء بين جماهيرهم، وخصوصا بعد تحقيق انتصارات معينة على خصومهم، فأصبحت الحل المثالي لسياسيين عدة يجدون صعوبة في التعامل مع المختلفين معهم، فلم يجدوا سوى إرسالهم إلى مكان مفضل، تعبيرا عن النبذ وعدم الاعتراف والاختلاف، ورفض التعددية وقبول الرأي والرأي الآخر.
والرغم أن هذه المزبلة خصصت في البداية لتستقبل البشر المغضوب عليهم، إلا أنها سرعان ما فتحت أبوابها لكل شيء تقريبا، مثل كتب وروايات وقصائد في مزبلة التاريخ، أو نظريات واختراعات في مزبلة التاريخ… إلخ. المهم أنها بقيت مكانا افتراضيا مهما في تاريخ البشرية، ودليلا على واحدة من خصائص الكائن البشري الأسوأ على الإطلاق، وهي الأنانية. فمزبلة التاريخ مصطلح يعني رفض الآخر، والحكم الفردي عليه لا عبر إلغائه أو إعدامه مثلا، بل عبر تخليده في فكرة الإلغاء، ليبقى حيا، لكنه غير قادر على المشاركة في الحياة الحقيقية، ما دام مجرد قمامة في المزبلة. ولعل هذا يفسر لنا سبب انتشار هذا المصطلح في الدول المتخلفة، إنهم غير قادرين على قبول وتقبل آراء بعضهم بعضا، وبالتالي لا حل سوى ختم الجدال الواقع بحكم نهائي.. اذهب إلى مزبلة التاريخ.