
الحمدلله من قبل ومن بعد على عمر مضى وعمر سـيمضي وما بينهما حكاية مضت بحلوها ومرها وحكاية سـتأتي بحلوها ومرها فهذه هي الحياة لم تأتي على مزاج أحد، ففي هذا العام توقف قطار العمر في محطته الرابعة الجديدة فقد بلغت الأربعين، محطة غريبة وشعور غريب لا يوصف، وقف القطار لحظات في هذه المحطة فانظر إلى الطريق لقد قطع سنوات وسنوات، بعيدة هي لحظة البداية وربما قريبة هي النهاية.
تمضي الأيام ويمضي معها زهرة عمرنا فتطوي أوراق دفترنا وقد حوى في طياته عمر تبدد وأجل يتقدم ولا يدري أحدنا متى يحصل الوداع فتنتهي تلك الرحلة، وأحدنا لا يدري كيف تكون هي النهاية؟ ولسنا ندري ما تحمل النهاية أأفراحا نستبشر بها ام أحزانا تفجعنا فيعزي أحدنا نفسه قبل الوداع.
الطفولة والشباب أمسيا ذكرى والكهولة والشيخوخة في الطريق، الشيب زار الذقن والرأس بكل نشاط وهمة، والمرض يتسرب في بعض أجزاء الجسد الآخذ في الوهن، لقد بلغت محطة العمر الأهم، حاسبت نفسي ما حصدت من تلك السنوات الخوالي.
هل قمت بتحقيق ما حلمت به وسعيت لأجله طوال هذه الأعوام من نجاح، في العمل، في الزواج، في العلاقات الاجتماعية؟
مع الأسف الإخفاقات كثيرة، والمحطم من سفينة الأحلام كثير، الآمال الضائعة في محطات العمر أكثر من أن تحصى، فقد بلغت الأربعين النظر ضعف ويحتاج إلى نظارة طبية للقيادة وللقراءة، والقلب صارت دقاته وهناً على وهن، وزال عن الجسد عنفوان الشباب، أضحى يركن إلى الهدوء والسكون، هي لحظة خاطفة التي توقف فيها القطار وليته يتوقف سنوات وسنوات، ماذا استدرك في السنوات القليلة المقبلة، هل يتحقق ما فات؟ هل أدرك أخطاء السنين؟ هل أصلح ما هلك مني؟ هل أفعل ما حرمت من فعله؟
الأجداد قد كهلوا والآباء قد كبروا، والأقران من حولي أراهم مثلي قد اكتأبوا، لماذا الخوف من سن الأربعين؟ هل هو الخوف من قرب النهاية؟ أو حنين لما فات؟ أو ندم على مالم نعشه؟ هي مجرد تساؤلات تسيطر علي، لماذا الارتباك والخوف من هذه المحطة العمرية؟
قال أبي سعيد التغلبي:
وقالوا: أَتلْهُو والشَّبابُ قد انقضى
وعمرُك قَدْ وَلّى، ولَمْ يَبْقَ طَائِلُ
فَقُلتُ: أصيلُ العُمْرِ مَا قَدْ بلغته
وأطْيبُ أوقاتِ الزَّمانِ الأصَائِلُ
وورد في القرآن الكريم «سن الأربعين» في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، حيث يُعد العمر الذي بعث به الأنبياء والرسل إلى أممهم ومنهم المصطفى صل الله عليه وسلم.
سن الأربعين هو سن القوة للإنسان وليس معناه القوة البدنية خالصة ولكنها قوة الخبرة والعقل والحكمة، فقد جعله جل جلاله سن التكليف بالرسالة لأنه بداية الحكمة والعقلانية، وربط سبحانه وتعالى هذا السن بأربعة أشياء،
أولها: الشكر على نعمته في الصحة والمال والولد وقبلها نعمته في الدين.
ثانياً: شكر الوالدين وذلك بالدعاء لهما وخص الله ذلك السن بتذكير الإنسان بالدعاء لوالديه لأنه سن الانشغال، فينشغل الرجل بعمله وأولاده وبيته وكذلك الزوجة وهنا يذكره الرحمن بالدعاء لوالديه والبر بهما.
والثالث: العمل الصالح فهذه المرحلة من العمر يسعى فيها الإنسان للنجاح في عمله وتأمين مستقبله وأولاده وقد خص الله عز وجل هذا العمل لكونه صالحاً لا تشوبه شائبة.
أما الرابع: فهو الدعاء للرحمن بجعل ذرية الإنسان أي أبناءه صالحين ليكونوا بارين به كما فعل هو مع آبائه.
في هذا السن يبدأ بتحضير نفسه للقاء ربه سبحانه، فما مضى أكثر مما بقي ولا يوجد هناك متسع من الوقت لكي نضيعه بدون أن نشعر بأننا نعبد الله ليس بأداء العبادات والفرائض المكتوبة فحسب، ولكن يجب أن يتبدل ذلك التفكير ويحل محله شعور بأن حياتنا جميعها لله جل جلاله.
تفاءل فقد وصلت إلى سن تكليف الأنبياء والمرسلين، سن تجُب ما قبلها من حماقات وسخافات البشر، وتتفتح على المرحلة المخملية الإمبراطورية، إنها مرحلة يترفع فيها الإنسان عن كل التفاهات الماضية، ويبتعد عن كل شيء يضجره من أشخاص وأحداث، ويحب روحه ويهتم بها ويتفرغ لإعادة ترميمها لتصبح مستعدة لمتطلبات هذه المرحلة، ويزداد إيمانه بالقضاء والقدر، ويزداد يقينا بأن الخيرة فيما أختاره الله له، لذا هنيئا لك فقد أصبحت امبراطوراً على نفسك واعيا جدا ومطمئنا من داخلك.
قبلة وسلام لكل من أدرك الأربعين أو أقترب من الأربعين، هكذا يكون سن الأربعين سن المسؤولية، سن العمل، سن العقل والحكمة، سن البناء للغد، البناء في العمل، البناء في الأبناء، حصد ما زرعت على مستوى علاقاتك الاجتماعية، وعليك اجتيازه بكل شجاعة سواء كنت تقف عند ضفة الأربعين أو أية ضفة أخرى في الحياة.. أهلاً وسهلاً بالأربعين.