
للشهادات التاريخية مكانتها بين الأحداث، وهي أقرب ما تكون إلى وثيقة يرويها صاحبها خصوصا عندما يكون مشاركا أو قريبا من صانع القرار ومتخذيه، ومطلعا على هذا الحدث أو ذاك.
وفي هذا السياق تبرز شهادة قدمها وكيل وزارة الخارجية السابق سليمان ماجد الشاهين، في عام 1992، أي قبل ما يقارب ثلاثين عاما، تتحدث وتلخص الأيام الأخيرة التي سبقت الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس 1990، وهذه الشهادة التاريخية كانت عبارة عن بحث ألقاه الشاهين في ندوة «المعلومات والأمن» بوزارة الإعلام في الكويت بتاريخ 4 أغسطس 1992، ومن ثم كانت لاحقا أحد أهم فصول كتابه «الديبلوماسية الكويتية بين المحنة والمهنة» الذي صدر عام 2001.
وفي هذه الحلقة يواصل الشاهين رصد الحقائق:
استهدافا للحق ووضع الأمور في نصابها، فإني أورد نص هذه الفقرة من كتاب الدكتور سعدون حمادي كاملة حتى نعرف من المسؤول عن التأخير في البت في هذه القضية، ففي ١٨ مارس [١٩٩٠] حملت رسالة من الشيخ صباح الأحمد إلى الدكتور سعدون حمادي مع تعليمات ومعلومات شفوية محددة، ورد الدكتور سعدون بتاريخ ٣٠/٤/١٩٩٠ بالآتي: تلقيت رسالتكم المؤرخة في ١٧ آذار ١٩٩٠ التي حملها إلينا مبعوثكم الأخ سليمان ماجد الشاهين، ويستطرد إلى هذا النص الذي نحن بصدده، حيث تقول الرسالة: «إن الوضع في الواقع ومنذ تكوين دولتينا في هذا القرن هو وضع بدين متجاورين تجمعهما زواصر القربى الوثيقة لم يتوصلا حتى الآن إلى اتفاق حول تحديد حدودهما في البحر والبحر، ولعل التأخير في الوصول إلى اتفاق حول ذلك يعود إلى أسباب بعضها خارج عن إرادتنا القومية وبعضها الآخر لأن العراق وخاصة في العقدين الماضيين منذ ثورة ١٧ تموز كان ومايزال يرغب في معالجة هذه القضية في إطار أخوي وموضوعي يجمع بين حقائق التاريخ الثابتة والمصلحة القومية العليا متفتح وواثق من النفس لا ينطلق من الأنانية القطرية بل من اعتبار شبر الأرض العراقي أو الكويتي سواء أكان في البر أو البحر جزءا من الوطن العربيالذي ينبغي أن يتكاتف أبناؤه في الدفاع عن أمنه ومصيره مع احترام ثابت لسيادة كل منا على أرضه، احترام ثابت وأصيل لبعضنا كأخوة ودول». انتهى النص. وكنا نرى الفارق الكبير بين موقفي العراق بين مارس ويوليو من واقع اللهجة والموضوعية، ففي مارس الحديث عن الدولتين المتجاورتين وعن احترام السيادة، ويرجع التأخير لأسباب خارجة عن الإرادة، وفي يوليو نقرأ عن الزحف المبرمج والتآمر مع أمريكا والخيانة والعدوان والسباب وغير ذلك مما فسرته محنة الثاني من أغسطس. وعلى الرغم من الصفحات المتعددة للرد على الجانب العراقي، إلا أنه أغفل متعمدا الاقتراح الكويتي الخاص بتشكيل لجنة عربية يحتكم إليها في هذا الخلاف، وهو أمر بديهي يفترض أن يناقشه العراق، ولكن لأن هناك نوايا أبعد من قضية الترسيم فإن الحلول المقترحة ليست هي المطلوبة لدى العراق في هذه المرحلة، ولعلها ليست مطلوبة في أي مرحلة سابقة (أيضا)، فقد قام السيد مرتضى سعيد عبدالباقي وزير الخارجية العراقي إذ ذاك بزيارة الكويت من ٦–٧ أبريل ١٩٧٣ وذلك بعد انسحابهم من أحداث «الصامتة»، ونظرا لعدم توصل الطرفين إلى الحل المقبول، فقد اقترحت الكويت اللجود إلى التحكيم لحل هذه المسألة وذلك عن طريق اختيار ثلاث دول عربية تحظى بموافقة الطرفين بالإضافة إلى أمين عام الجامعة العربية، إلا أن الوفد العراقي إذ ذاك رفض هذا المقترح متعللا بأنهم يحبذون أن يأتي الحل عن طريق البلدين من دون اللجوء إلى طرف أجنبي على حد تعبيرهم، وللعراق مبرراته في رفض التحكيم والوساطة ذلك أن مطالبه تتجاوز الحق ولا تتوفر لها الحجية والمنطق والقبول وبذا فهم يعلمون سلفا بأن قضيتهم المفتعلة خاسرة من الأساس وليست هناك وسيلة لتحقيق أطماعهم سوى القوة والبطش مادام النظام الفردي يتحكم في مصسر الشعب العراقي.
مشكلة النفط
أما فيما يتعلق باتهامات العراق للكويت بشأن النفط، فقد أوضحنا لهم بأن المنطقة التي بدأ اكتشافها منذ عام ١٩٦٣ هي «الرتقة» وتقع جنوبي خط الجامعة، وإذا كانت جيولوجيا متصلة تحت الأرض من الطبقات المكونة لحقل الرميلة العراقي فذلك لا يعني التجاوز على الحق العراقي ولا علاقة للعراق بها، وثبت من واقع ترسيم لجنة الحدود التابعة للأمم المتحدة من هو المتجاوز على أراضي الآخر، بل يمكنني أن أقول الآن أن العراق نفسه يعرف تجاوزاته حيث أنه من قبل أشهر من إعلان لجنة ترسيم الحدود عن نتائجها فيما يتعلق بالحدود البرية، فقد لاحظت قوات المراقبة للأمم المتحدة مع رجال الأمن الكويتيين في المنطقة المجردة من السلاح قيام العراق بسحب معدات استخراج النفط من تلك الآبار التي كان يستغلها طيلة السنوات [السابقة]، أما الادعاء بأن الكويت استفادت من تعطل العراق لإنتاج نفطه خلال حربه مع إيران، فيكفي أن يعرف العراق بأن إنتاج الكويت انخفض من مليون ونصف عام ١٩٧٩ إلى أقل من ثمانمائة ألف برميل يوميا في الثمانينات، والإيرادات هبطت من حوالي ستة مليارات دينار عام ١٩٨٠ إلى ١.٤ مليار عام ١٩٨٦، وأن التزام الكويت بمقررات الأوبك أفقدها ٥٥٪ من معدل إنتاجها قبل الحرب العراقية الإيرانية وذلك التزاما منا بالحصص المقررة لوقف التدهور في الأسعار، واتهام الكويت والإمارات بعشوائية بأنهما المتسببان في الأسعار المتدهورة للنفط أمر مردود عليه، حيث أن تقارير الأوبك نفسها عن تلك الفترة وفي مايو بالذات تشير إلى أن هناك تسع دول هي التي تملك القدرة لتجاوز حصتها وليست الكويت أو الإمارات.
وفي آخر اجتماع للأوابك العربية في جدة [قبل الغزو العراقي] تم الاتفاق بين الدول الأعضاء على المستوى المقبول للإنتاج، والعراق أول من أشاد بما تم الاتفاق عليه، وهكذا أوصل العراق منطقة الخليج العربي والأمة إلى مشارف الحرب بفتحه أبواق دعاياته وإعلامه وتصعيد لهجة التهديد والوعيد والاتهامات المكشوفة والساذجة إلا على من يصيغها، ومن جانب الكويت لم تجد ملاذا إلا في أحضان أمتنا والجامعة العربية، فقامت المساعي المتعددة لتطويق هذا الحدث الخطير، وتركزت الجهود في أن يبقى الأمر ضمن معركة المفاوضات والمعارك السياسية السائدة مع الأسف في عالمنا العربي.
تحركات عربية
وهكذا وصل الكويت فخامة الرئيس المصري [حينها] حسني مبارك بعد لقاء في بغداد والرياض ليؤكد ما تعهد به صدام من عدم استخدام القوة لحل هذه القضية، كما وصل الملك حسين وياسر عرفات ليؤكدا الشيء نفسه مع التأكيد على التبرير العراقي بأن تواجد القوات العراقية في المناطق الجنوبية إنما هو وضع طبيعي لاستمرار حماية الفاو المحررة. كما قام الشاذلي القليبي أمين الجامعة العربية إذ ذاك بجولة في هذا الإطار، وفي يوم الاثنين الموافق ٣٠ يوليو ١٩٩٠ قمت بزيارة قمت بمرافقته وتقديمه لسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حيث أكد السيد الشاذلي لسموه أن الجانب العراقي لن يلجأ إلى القوة أبدا، وخلال هذا اللقاء اتصل د.عبدالرحمن العوضي من صنعاء ومن مكتب الرئيس اليمني علي عبدالله صالح حيث نقل لسمو ولي العهد تأكيدات الرئيس اليمني بأنه على اتصال هاتفي دائم مع الرئيس العراقي، وأن صدام يدعو الرئيس اليمني وبمعيته من يريد الطيران على طول الحدود العراقية الكويتية ليتأكد بنفسه من عدم وجود أي حشود. ورغم هذه التأكيدات إلا أن الجهود والمساعي العربية لم تتوقف، لأن الوضع لايزال ينذر بالخطر، وكان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز في مقدمة من يعون ويدركون خطورة الوضع، فكان الساعي لعقد اجتماع بين الكويت والعراق، وكان الداعي لاستضافته في جدة، وهكذا توجه سمو الشيخ سعد العبدالله ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء [حينها] على رأس وفد وزاري وسياسي وفني ضم أصحاب المعالي الشيخ ناصر المحمد الأحمد الصباح ومعالي ضاري عبدالله العثمان وسليمان ماجد الشاهين وكيل وزارة الخارجية.