سليمان ماجد الشاهين يرصد أحداثها وتفاصيلها: قراءة في خلفيات ما قبل الغزو (1)

للشهادات التاريخية مكانتها بين الأحداث، وهي أقرب ما تكون إلى وثيقة يرويها صاحبها خصوصا عندما يكون مشاركا أو قريبا من صانع القرار ومتخذيه، ومطلعا على هذا الحدث أو ذاك.

وفي هذا السياق تبرز شهادة قدمها وكيل وزارة الخارجية السابق سليمان ماجد الشاهين، في عام 1992، أي قبل ما يقارب ثلاثين عاما، تتحدث وتلخص الأيام الأخيرة التي سبقت الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس 1990، وهذه الشهادة التاريخية كانت عبارة عن بحث ألقاه الشاهين في ندوة «المعلومات والأمن» بوزارة الإعلام في الكويت بتاريخ 4 أغسطس 1992،  ومن ثم كانت لاحقا أحد أهم فصول كتابه «الديبلوماسية الكويتية بين المحنة والمهنة» الذي صدر عام 2001.

ونظرا لما حملته هذه المحاضرة أو الشهادة، فإننا نعيد نشر أجزاء منها:

سليمان ماجد الشاهين
سليمان ماجد الشاهين

ما أقدمه هنا عبارة عن محاولة متواضعة لاستذكار بعض القضايا والمواقف، واستحضار عدد من الرسائل التي استجدت في الأيام والساعات القليلة التي سبقت محنة الاحتلال، وذلك من منظور شخصي ذاتي، فحتى هذه اللحظة لم تتوفر كافة المستندات ولم يتم التعرف على كافة الدوافع وراء هذا العدوان العراقي البشع، وأن التحليل أو كتابة التاريخ يستلزم من بين أمور كثيرة ومتعددة جمع المعلومات من مصادرها المتعددة، وبالطبع لا يمكن الإحاطة بجميع المعلومات ذات الصلة، فذلك أمر مستحيل، ولكن يمكن البدء في التاريخ عندما تتوافر معلومات كافية يمكمن أن تشكل منطلقا وبداية أو مدخلا لتدوين ما يمكن تدوينه في هذه المرحلة.

وبصورة عامة. فإن حقب التاريخ متتالية يطوي بعضها البعض، وكل نهاية حقبة هي في حد ذاتها إيذان ببدء حقبة جديدة، ولكن العجيب أن كتابة وتدوين وتأريخ أي حقبة لا ينتهي بانتهائهاو لذا فهناك دوما الجديد من المعلومات أو التحليل تضاف إلى التاريخ، وتظل العملية مستمرة في حيويتها ماداما هناك عقول تفكر وجهود تبذل طلبا للحقيقة وحدها، وإنصافا للتاريخ.

وفي محنتنا يمكن القول إننا جميعا تاريخها.. كل فرد منا عاشها وعايشها كويتيا أو غير كويتي، بل كل منا يستطيع أن يضيف حرفا أو كلمة من أو سطرا أو كتابا في تاريخ هذه المرحلة.

في أواخر سنيّ الحرب العراقية الإيرانية، أي منذ 1987 وما بعدها، كان النقاش مع العديد من المسؤولين والسياسيين والسفراء يتناول بطبيعة الحال جوانب هذه الحرب، وكثيرا ما ينتهي النقاش مع هؤلاء المسؤولين وخاصة من الدول ذات المسؤولية العظمى في الشؤون الدولية أو مع الأصدقاء ممن لديهم نظرة ذات أبعاد بحقائق التاريخ بطرح التساؤل التالي:

كيف ترون مستقبل العلاقات مع العراق بعد أن امتلك جيشا ذا قوة وعددا يفوق احتياجاته ويخل بالتوازن الطبيعي بين تعداد وقدرات العراق سكانا ومواردا وبين طموحات وأوهام قائد مثل صدام، خاصة أن الحرب أوشكت إذ ذاك أن تحسم بعد أن أنهك فيها الطرفان في معارك حدودية ذهب ضحيتها مئات الآلاف من البشر، وأهدرت مئات المليارات من الأموال، وفي النهاية قبل الطرفان فيها وقف إطلاق النار بعد أن استرد كل طرف أراضيه؟

ولسنا في معرض التطرق إلى ملابسات تلك الحرب وما واكبها من شعارات وتبريرات استغل فيها التاريخ والدين والمذاهب، فموضوعها خارج مناقشاتنا إلا بمقدار صلتها بموضوع محنتنا.

أقول: كان ذلك التساؤل يجرنا إلى أسئلة متعددة، منها: هل يستطيع العراق أن يستوعب الملايين من الطاقات الشابة التي حرمت من التعليم والتثقيف والاستقرار، ووجهت إلى الآلة الحربية وطاحونة المعارك؟

وهل يمكن دمجها كطاقات منتجة ومستقرة في مجتمعها بعد أن تحول إلى مجتمع الثكنة بإنتاجه وأفكاره على مدى ثماني سنوات مع ما سبقتها من سنوات منهكة في شعارات ومسيرات ومواجهات مستمرة في الشمال مع الأكراد.. هذا وقد كان ردنا الحاسم إذ ذاك مبنيا على قناعات تلك الفترة من الصفاء القومي والوفاء الأخلاقي من التشكك في ذلك الطرح باعتبار أن أي قائد متزن وسوي لا يمكن أن يخرج من حرب ودمار ليزج جيشه وشعبه في حرب ودمار آخرين، فضلا عن أن العراق باعتبار تطلعه إلى القيام بدور مسؤول وبارز في المنطقة لا يمكن أن يقود نفسه إلى مغامرة غير محسوبة عسكريا أو مبررة أخلاقيا، وبالتالي فإن الشك يقودنا دوما إلى اتهام أصحاب هذا التساؤل بأنهم يحاولون زرع بذور الفتنة والشكوك في الجسم العربي تحقيقا لأهداف غير خافية على أحد.

هذا التساؤل أطرحه الآن كإحدى الحقائق التي كثيرا ما تتكرر عبر التاريخ عندما تتوفر شروطها، وأهمها وجود القائد المفتون ذو الطبيعة الديكتاتورية المنفردة وفي غياب أو تغييب الحريات السياسية والعامة بحيث تعطل إرادة الشعب وتستبدل بقوالب من صنع ذلك النوع من النظام والقيادة.

وبطبيعة الحال علينا أن ننتبه فلا نجعل هذه الحقيقة الواحدة هي الدافع الأوحد والأساسي في تعاملنا مع هذا الغزو والاحتلال، فهي جزئية واحدة من بين عشرات القضايا الأخرى، ولكني أوردتها كي نعترف بأن هناك قصورا في تفكيرنا السياسي حين نعزل هذا التفكير البريء عن الاستفادة من مخزون التجارب التاريخية البشرية جمعاء من دون أي تفاضل أو اختلاف أو تمايز قومي باعتبار أن الفكر الإنساني عندما يخضع للظروف نفسها فإنه يتصرف غالبا بنمط متشابه، وهكذا كان صدام واحدا من بني أصحاب السوابق المثيلة في التاريخ.

هذا، ولن أحاول أن أرجع إلى تاريخ بعيد لكي نتتبع التغير المستمر في أسلوب ونمط التفكير لدى النظام العراقي [السابق] بقيادة رئيسه، سواء عندما كان نائبا لرئيس مجلس الوزراء أو رئييسها للجمهورية ورئيسا لوزرائها، حيث أن دوره المتفرد هو الذي يوجه الجميع لخدمته أيا كان موقعهم من الحكم، وعليه فلنأخذ الفترة التي تم خلالها تكثيف الاتصالات مع العراق بغية إنهاء قضية الترسيم، آخذين في الاعتبار الوضع الخاص للعراق المتمثل في حربه مع إيران، حيث كانت التوجيهات السامية هي عدم استغلال ذلك الظرف العصيب للعراق، وإنما كانت الجهود تتركز في معالجة تجاوزاته المستمرة والمتمثلة في الإصرار على إقامة المزارع الشكلية بإشراف الجيش وبصورة متعمدة لكي تتداخل مع المزارع الكويتية، أو إقامة المنشآت والنقاط العسكرية عبر أراضينا، بالإضافة إلى دفع مراكزه النفطية إلى منطقة الرتقة عبر الحدود الكويتية، وعليه فقد قام [سمو الأمير الراحل] الشيخ صباح الأحمد الصباح [حينما كان] نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية إذ ذاك بزيارة لبغداد بتاريخ 3/7/1988  قابل خلالها الرئيس العراقي وسلمه رسالة من صاحب السمو [الراحل] الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير دولة الكويت تتضمن من بين أخرى المطالبة بإزالة تلك التجاوزات عن الأراضي الكويتية، والرغبة في حل قضية ترسيم الحدود حلا نهائيا، وتحرك الأمر قليلا أو هكذا بدا وقتها حين عرض الرئيس العراقي على هامش قمة الجزائر في صيف 1988 الرغبة في معاودة الاتصالات بشأن الحدود.

هذا، ولم تكن الأمور واضحة عن مدى جدية ذلك العرض خاصة أن العراق كان منشغلا بحربه مع إيران ويود أن يتفرغ لها من دون قضايا جانبية إذا ما قيست بتلك المواجهة، ويود دوما تأجيل البت عن طريق ترحيل قضاياه للمستقبل.

ولكن تلى ذلك الموقف الزيارة التي قام بها الدكتور سعدون حمادي وزير الخارجية [العراقي] إذ ذاك إلى الكويت بتاريخ 19/11/1989 حاملا رسالة من رئيسه إلى صاحب السمو الأمير تتعلق بقضايا المساعدات، وعلى هامش تلك الزيارة تطرق مع الشيخ صباح الأحمد إلى الحديث عن مقترحات يفكر العراق بطرحها تتعلق بالتعاون الأمني والدفاعي، فكانت محط اهتمام الكويت المبدئي باعتبار أن التعاون مطلوب بين الأشقاء ضمن الأطر التي تدفع بالعلاقات إلى مواقع متقدمة شريطة التكافؤ واحترام القواعد التي تحكم العلاقات الدولية بين الدول المستقلة، غير أن للعراق حساباته الأخرى من تلك المقترحات، ففي الزيارة التي قام بها الشيخ صباح الأحمد إلى بغداد بتاريخ 18/2/1990 لمواصلة البحث في قضية ترسيم الحدود التي تستقطب اهتمام الكويت الدائم ضمن العلاقات الكويتية العراقية، سلمه الدكتور سعدون مسودتين لمشروعي اتفاقيتين، أحدهما أمنية والأخرى دفاعية، وقال الدكتور سعدون في تقديمه لهاتين المسودتين أنهما لا تتضمان شيئا جديدا، وإنما تقنين للتسهيلات التي أعطيت ومنحت للعراق خلال حربه مع إيران وتثبيتها ضمن هذه الاتفاقية، والأخرى أسماها بأنها إدارة تنفيذية وتطبيق عملي لبنود معاهدة الدفاع العربي المشترك حيث العراق والكويت أعضاء فيها.

من الحرب العراقية الإيرانية

شاهد أيضاً

الذكرى الـ 21 لرحيل سامي المنيس

كتب علي حسين العوضي في عام 1996 كانت بدايتي في العمل الصحافي في جريدة السياسة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *