
صورتها لاتزال محفورة في عقلي وذاكرتي، رغم مرور سنوات على توقف جريدة الطليعة عن الصدور، هذا التوقف الذي يشبه إلى حد بعيد حكما بالإعدام، ولكنه «إعدام صحافي»، غيّب ثلة من رجالات وشخصيات وطنية، حملت همّ الوطن، وسعت لتغيير واقعه بفكرها وقلمها، بعد سنوات من النضال الذي ترك بصمات النصر في كل مجال.
مواقف مشهودة
قد تكون شهادتي مجروحة في «الطليعة»، لأني ابنتها التي احتضنتني، وفتحت لي ذراعيها لأكون أحد كوادرها الإعلامية، ولكن ذلك لا يمنع من أن أقول كلمة حق بهذا الصرح الإعلامي الكبير الذي، وإن غاب ككيان مادي ورقي، فإنه مايزال في الوجدان حيا، وفي الواقع أثرا لا يمحى، ولاسيما الدور الذي لعبته وطنيا وتاريخيا وسياسيا، وحربها الكبيرة التي خاضتها دفاعا عن المال العام والمبادئ الدستورية وحرية الصحافة، والحريات العامة، فكانت لها مواقف سياسية مشهودة، بشهادة واعتراف الخصوم قبل الأصدقاء.
وماذا عسى أن نقول في مقال عن ذلك الدور الوطني، ولكن «ما لا يُدرك كله لا يُترك كله»، أو كما يقولون «حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق» ولاسيما في استذكار فترة من الزمن كان للجريدة دورا وطنيا كبيرا، فالمطلع القريب من إدارة تحريرها، وكان أحد أفرادها، وعمل في أروقتها، يعرف حجم الدور الكبير الذي لعبته «الطليعة» في كثير من الأحداث السياسية الكبيرة والصغيرة، خلال سنوات صدروها، هذا الدور الذي تميز بخصوصية جعلتها منفردة بين كل الصحف والوسائل الإعلامية الأخرى، وميزها بشخصياتها الوطنية، وشخصياتها الصحافية التي كانت تقود العمل، إضافة إلى الاحترام الذي كانت تبديه الجريدة للناس، وطريقة تعاملها مع الأحداث.
وللأمانة الصحافية، فإنه ليس كل شيء حول الجريدة يمكن أن يقال، فهناك خصوصية واحترام للأسرار الشخصية السياسية في التعاطي مع الأحداث، وخاصة أن لكل حدث ظرفه السياسي الخاص، وبهذه الطريقة كسبت «الطليعة» السمعة الطيبة والاحترام الكبير. ومن ذلك احترام المصادر التي تزودنا بالأخبار، وسريتها، وعدم ذكرها، لأنها من صميم العمل الوطني وأخلاقيات المهنة التي تفرض احترام تلك الخصوصية.
بُعد عربي
وفي هذا المجال عملت الجريدة على التعاطي مع أهم الملفات الوطنية الملحة التي فرضتها الظروف والأحداث، ففتحت ملف حقوق الإنسان، ودافعت عن المرأة وضغطت في سبيل نيل حقوقها السياسية وغير السياسية، ودافعت بشراسة عن المال العام، ودافعت للحفاظ على المكتسبات البرلمانية والسياسية، وغير ذلك من القضايا والملفات التي تعاملت معها، ولا يمكن حصرها في مقال.
وهنا لا بد من التنويه إلى البُعد العربي الذي اكتسبته «الطليعة»، فقد كان لسياستها الإعلامية ونهجها الصحافي دورا كبيرا في جذب القارئ الخليجي والعربي لها، وبشكل سجل أرقاما قياسية، في عدد القراءات على موقع الجريدة الإلكتروني، كما نشأت صداقات بينها وبين الشارع العربي، إضافة لصداقاتها المحلية، فقد كانت هناك علاقات شخصية لأسرة تحرير الجريدة مع قطاع واسع من الكويتيين، وهذا يعود إلى «القرب المهني» من الشارع وهمومه وقضاياه، وهو ما ميزها.
وبلا شك، فإن ما اطلعت عليه شخصيا، خلال فترة عملي المهني (التحريري) ضمن أسرة التحرير، من مصادر المعلومات والأخبار التي تردنا، ونتعاطى معها بكل أمانة ومهنية، يؤكد أن الكويت بخير ولديها من العناصر الوطنية المهمة الكثير، وهو ما أعطى الجريدة «أكسير» الاستمرار بتعاملها مع أناس وشخصيات خيّرة في كل قطاعات وجهات الدولة، ثبت بالممارسة العملية أن قلوبهم على البلد، وحريصون على مصلحتها ومقدّراتها، وأعطونا دافعا للاستمرار والعمل على فتح ملفات مهمة، لحرصهم على البلد والمال العام، وهذه العناصر الوطنية تحتاج إلى الدعم والمؤازرة للاستمرار في دورها الوطني المسؤول.
لن تتوقف المسيرة
أستذكر ما كتبته، وفي القلب غصّة، فصعب على الإنسان أن يكون في مؤسسة تمثل أسرته الثانية، بكل البُعد الاجتماعي قبل الإعلامي فيها، ثم يجد نفسه قد فقد تلك الأسرة، إنه شعور صعب وصفه، يحز بالنفس، وهو يرى نفسه في خضم الأحداث والنشاط، وفجأة يتوقف عن الكتابة، لاشك أن تأثير الصدمة سيكون كبيرا، وعليّ شخصيا كان قاسيا بقيت بعده سنة كاملة متوقفة عن الكتابة،
واليوم، لا أستطيع أبدا أن أرى نفسي زائرة لديوانية الجريدة التي لاتزال تستقبل روادها، فأنا التي عشت في أروقتها واحدة من أسرتها يصعب علي أن أدخلها زائرة أجلس في الديوانية أتحدث وأضحك، ثم أخرج، فدخولي إليها سيعيد لي ذكريات، مع جلسات أسرة التحرير وهي تعد الجريدة للطباعة وتجهز «سلة الطليعة»، لذلك أعتذر عن أي دعوة لزيارة ديوانية «الطليعة».
وما يمكن أن أنهي به حديثي عن «محبوبتي» أن أجدد التأكيد على استمراري – وكل من عمل فيها من الإخوة الزملاء – على نهج «الطليعة»، فيجب ألا تتوقف المسيرة، وأن يكون للإنسان صوت ورأي لدفع مظلمة أو تسجيل موقف وطني..
هكذا تعلمنا من «الطليعة»، وهكذا سنبقى.
