
كاتب من سلطنة عمان
«ارفع راسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد»
صادف يوم الجمعة 23 يوليو 2021 الذكرى التاسعة والستون لثوره 23 يوليو المجيدة.
في مثل ذلك اليوم من العام 1952 استفاق العالم على حدث تاريخي غيّر خارطة الشرق الأوسط كله، حدث له انعكاسات كبرى على الصعيد العالمي، فقد قامت مجموعة من الضباط الأحرار بقياده جمال عبدالناصر بانقلاب عسكري أطاح بالملكية وحكم الإقطاع، وتم الإعلان عن المبادئ الستة المشهورة، التي تطورت إلى ثوره جذرية شاملة وضعت مصر والمنطقة العربية كلها على عتبة مرحلة جديدة غير مسبوقة من التحرر الوطني والاستقلال.
دوى صوت جهوري لشاب أسمر ممشوق القامة بكاريزما دخيلة على المحيط العربي الاسن: «ارفع راسك يا اخي فقد مضى عهد الاستعباد».
كان الشعار ساحرا ولامس شغاف القلب وخلجات النفس وأحلامها المكبوتة، وزلزل القيود والحواجز المصطنعة من الخليج إلى المحيط، كان شيئا لم تعهده المنطقة العربية من قبل، مؤذنا ببدء مرحلة التحرر الوطني والاشتراكية والوحدة العربية.
كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها مكللة بنصر ساحق للحلفاء، ظهر على أثره نظام القطبين، وبدأ النهوض الهائل لحركات التحرر الوطني، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، تفرض نفسها في المعادلة الدولية الجديدة.
كانت الأمة العربية جزءا من تلك التفاعلات، وكانت ترزح تحت نير الاستعمار وتمر بمرحلة غليان شعبي من جراء حرب فلسطين ونتائجها المؤلمة، و«كانت تبحث عن بطل».
مهما تحدثنا عن دور الجماهير، يبقى دور الفرد في التاريخ مؤثرا، وكاد التاريخ أن يستنطق الأفراد فردا فردا فاتحا صفحاته لزعامة تاريخية منتظرة، وكان ذلك الشاب القادم من الصعيد محملا بالقيم النبيلة، الذي جاء من حرب فلسطين مثخنا بجراح الهزيمة المرة، أطل بخطاباته النارية التي تلهب الجماهير وتبقيها ساعات طويلة متسمرة في الميادين ومن خلف المذياع، داعيا للكرامة والوحدة والثوره ضد الاستعمار، وفاتحا أفقا جديدا لغد مشرق.
كان التجاوب مذهلا، فهتفت له الجماهير حتى بحت حناجرها، كان الرجل مستوعبا للحالة العربية ومتطلبات نهوضها من موقع الممارسة العملية والتجربة، فقد كان شاهدا حيا على بؤس الواقع العربي.
لم تؤمن الجماهير العربية بقائد كما آمنت بجمال، ولم يخلص لها زعيم كما أخلص.
لم يكن أبا خالد شخصا، بل ظاهرة لا تتكرر كثيرا في تاريخ الأمم، عمل للفقراء والمحرومين، وأعاد للامة العربية مجدها المفقود، ووضع مصر بكل تاريخها ووزنها وحضارتها في خدمة الأماني العربية ونضالها التحرري، فتكالبت كل القوى الإمبريالية والاستعمارية والرجعية لوأد مشروعه الوحدوي الكبير. لكن الرجل بالتفاف شعبي نادر، وبإيمان يضاهي إيمان الأولياء، استطاع نقل الآمال العربية البعيدة إلى الممكن التاريخي والعبور بالسفينة العربية إلى شواطئ الحرية والكرامة القومية، فكان زمن الاستقلال الوطني.
ارتبط تاريخ الأمة العربية منذ منتصف القرن العشرين بتلك القامة الكبيرة، وفي مجرى النضال المخلص والمتفاني لقضية الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية، تحول جمال عبدالناصر من ضابط صغير أطاح بالحكم الملكي في وطنه إلى واحد من أبرز وأهم الرجالات المؤثرة في القرن العشرين.