
كان يا مكان، في هذا المكان، وبزمان قبل الجائحة، حين كانت التربية الوطنية مقررا دراسيا في المدارس، اتصلت بي صديقتي المعلمة، تطلب مني مشورة ورأيا، يخص موضوعا غريبا صار بمدرستها، فرحبت باتصالها، وأخبرتها أني سأقوم بمساعدتها بكل ما أوتيت من قوة وخبرة ومعرفة. فأخبرتني أن الموضوع كالآتي:
«هي معلمة في مدرسة ابتدائية للأولاد، وفي كل عام تقوم إدارة المدرسة بعمل انتخابات للطلبة في المدرسة، بحيث يترشح كل طالب، وبشرط أن لا يقل سنه يوم الانتخاب عن ستة سنوات ميلادية، ويجيد قراءة اللغة العربية وكتابتها، ولا يكون قد سبق الحكم عليه بواقعة مخلة بالشرف أو بالأمانة، كالغش أو السرقة من المقصف.
كما يوقف استعمال حق الانتخاب بالنسبة إلى الأشبال والكشافة، كما على الناخب أن يتولى حقوقه الانتخابية بنفسه في فصله، ويدفع مبلغ عشرة دنانير كتأمين لأعمال الإصلاحات في المدرسة، ولا يجوز أن يجمع المترشح بين ترشحه لمجلس الطلبة وانضمامه لأي نشاط في الحصة المستقطعة للأنشطة المدرسية.
المدرسة تتكون من خمسة مراحل، من الصف الأول إلى الصف الخامس، وكل مرحلة فيها ثلاثة صفوف، ومن كل فصل يفوز مرشحين اثنين بمقعدين في مجلس الطلبة، إضافة إلى مقعد لرئيس كل قسم من أقسام المواد الدراسية (اللغة العربية، التربية الإسلامية، اللغة الإنجليزية، الرياضيات، العلوم، الاجتماعيات، التربية الوطنية، التربية الفنية، التربية البدينة، التربية الموسيقية)، وبالتالي يكون مجموع أعضاء مجلس الطلبة (55) عضوا، (45) عضو من الطلبة، و(10) أعضاء من المعلمات.
كان المجلس يعقد اجتماعاته كل أسبوع، يوم الثلاثاء في وقت حصة النشاط المدرسي، بحيث تجلس المعلمات في الصف الأمامي، وبقية الطلبة خلفهم.
لكن في يوم من الأيام، وصلت المعلمات فوجدن طلبة الصف الخامس جالسين في الصفوف الأمامية على كراسي المعلمات الجلدية الكبيرة، فغضبن أشد الغضب، ورحلن دون الحضور إلى الجلسة، ما تسبب بفض المجلس، لعدم اكتمال العدد، ولعدم وجود المعلمات، وتكرر هذا الأمر أكثر من مرة، فقد كان طلبة الصف الخامس يقدمون بسرعة إلى قاعة الاجتماعات، للجلوس على كراسي المعلمات، فما الحل، وما العمل الذي يجب فعله، ليستأنف مجلس الطلبة عمله!».
أخبرتها بوجهة نظري: «أظن أنه تصرف طفولي».
ردت علي: «بالضبط، فهم أطفال».
اعترضت على كلامها: «تصرف طفولي من المعلمات».
لم تبد رد فعل، سوى الصمت الذي يرتدي الاستغراب.
«حين تساوي معلمة بالغة ذات منصب هو رئاسة لقسم يكتظ بالمعلمات، نفسها بطفل لا يتعدى عشر سنوات، فهي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، وإن بلغت من العمر عقودا».
«إذن ما العمل».
«المواجهة»، رددت عليها، «النقاش والمواجهة، هما أبسط وأفضل الحلول، فقد يريد الأطفال إيصال رسالة، لكن خانهم التعبير، ولقلة خبرتهم بالحياة، لم يعرفوا كيف يواجهوا معلماتهم، ما سبب بتعطل مصالح بقية الطلبة، بسبب رحيل المعلمات وفض المجلس».
أخذت المعلمة برأيي وتمت مواجهة الفريقين، ليكتشفوا أن الطلبة كانوا يعانون من الكراسي الخشبية صغيرة الحجم، ما تتسبب لهم بالآلام، واكتشفوا أن الكرسي الجلدي الكبير مريح، وخجلوا من طلبه كونه للمعلمات فقط.
أظن أن بعض الأمور وإن بدا ظاهرها غريبا إلا أن أعماقها وبواطنها قد تدل على أشياء أخرى، وعلى كل الأحوال، فبكل قرار هناك عواقب، وردود فعل لذاك الفعل، وبكل مصالح يتم تقديمها، هناك مصالح تتأخر، وحقوق تتعطل.
ملاحظة: ليس كل كرسي يستحق النضال من أجله!